على امتداد تاريخها العريق، أنجبت أرض المغرب المعطاء أسماء حلقت عاليا في سماء التألق والعطاء الخلا ق في شتى المجالات. منهم من آثر مواصلة مسيرة الإبداع والإنجاز بأرض الآباء والأجداد، ومنهم من اختار استكشاف آفاق أخرى تزيد من فرص التحصيل وتصقل الموهبة والمهارة.
على خطى هؤلاء استلهمت مونية زمامو مسيرة حياتها وشقت طريقها بكل ثقة وطموح. هي نموذج للشباب الطافح بالحيوية، ترنو ببصرها في الأفق البعيد .. ت عد العدة بتأن لبلوغ المبتغى، لا تترك شيئا للصدفة أو لما يأتي في طيات صروف الدهر وتقلبات الحياة. تؤمن بأن النجاح صناعة وثمرة جهد ومثابرة وتراكم لبنات.
« تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن » .. هكذا تحدث المتنبي في عصره. غير أن الرياح تجري بما يشتهيه تصميمها لنموذج خاص لتوربينات رياح صغيرة الحجم تفتقت عنها موهبة مونية لتسخيرها في توليد الطاقة الكهربائية.
تشرح مونية ابتكارها شرحا تقنيا وعلميا بأنه نموذج جديد لتوربينات رياح صغيرة ذات محور دوران عمودي، بخلاف التوربينات الكبيرة الحجم ذات محور الدوران الأفقي، وتتميز بكون تصميمها يزيد من مردودها بنسبة تصل إلى 30 في المائة.
ويمكن، حسب الباحثة، استخدام هذه التوربينات بشكل فردي في المباني السكنية وفي الوحدات الصناعية وفي بعض الأنشطة الفلاحية لضخ المياه، وفي المناطق النائية البعيدة عن الشبكة الكهربائية. ويمكن الاعتماد عليها بشكل مستقل أو بمزاوجتها مع الألواح الشمسية على نحو يحقق استقلالية كهربائية في المناطق المعنية. جميع المناطق، تقول مونية، مجال فسيح لاستخدام هذه التوربينات، لأنها تتميز بالقدرة على الاشتغال بسرعة رياح منخفضة من حوالي مترين إلى ثلاثة أمتار في الثانية، وهي سرعة متوفرة في جميع المناطق بصرف النظر عن ارتفاع تثبيتها.
شعار مونية في الحياة: « لا حدود للطموح » و »الرضا عن الذات موت »، لذلك تؤمن بأن باكورة ابتكارها خطوة في مسافة الألف ميل. عن مشاريعها المستقبلية تقول مونية إنها تطمح في الأفق المنظور إلى إخراج النموذج الذي تم تطويره تجريبيا على مستوى المختبر إلى حيز « الرياح »، وتصميم توربينات بأبعاد أكبر لإعداد نموذج جاهز للاستعمال، بطموح أكبر يتمثل في تسويق هذا الابتكار على المستويين الوطني والعالمي.
زاد ها في رحلة الحياة البحث العلمي الرصين على درب البذل والعطاء، والصبر والتحمل ومجابهة الصعاب بثقة في النفس والقدرات. تهتك ستر الشك بالسؤال والتساؤل واستقصاء بطون الكتب، وتشفي نهمها المعرفي بالاطلاع والاستكشاف، حتى إذا اشتد عودها العلمي نثرت كنانة علمها تطبيقا عمليا، كالنحلة تنهل رحيقا من هذا الحقل وذاك لتجود بعسلها على الآكلين.
هي نفس القيم التي تحث الشباب الباحثين على التشبع بها: اختيار مجال بحث يأنسون في أنفسهم شغفا به، مسلحين بالمثابرة والصبر في مواجهة العقبات والصعوبات التي تعترض مسيرة البحث العلمي واتخاذها وقودا وحافزا لمواصلة المسير، مع ضرورة الانفتاح على البحث العلمي عالميا عبر المشاركة في مسابقات ومؤتمرات دولية، والتواصل والتفاعل مع باحثين في نفس المجال لتبادل التجارب والاطلاع على ما يستجد في عالم البحث. من ميزات هذا الانفتاح أيضا، تقول مونية، إبراز الكفاءات المغربية وما تتمتع به من مؤهلات في مجال تخصصها.
ولأن طموحاتها تحلق عاليا، تجوب مونية بقاع الأرض ابتغاء توسيع معارفها والاحتكاك بتجارب أخرى تعزز خبراتها وتوسع دائرة معارفها، متنقلة بين العديد من الدول الأوروبية والإفريقية للمشاركة في أنشطة وفعاليات تتعلق بالاستدامة وأمن الموارد على مستوى العالم.
المرء ابن عصره وبيئته: كان توجهها العلمي مدروسا ومتناغما مع السياق المحلي والدولي. ففي وقت تشتد فيه حرارة الكوكب وتتزايد الكوارث الطبيعية بفعل التغير المناخي الناجم عن انبعاثات الغازات، يتفق العالم بأسره على أن إنقاذ الكوكب رهين باعتماد الطاقات النظيفة.
تفخر مونية في هذا الصدد بكون المغرب صنع لنفسه مكانة رائدة في هذا المجال ببلورة رؤية استشرافية دقيقة واستراتيجية طموحة قوامها مشاريع ضخمة تتوزع على مختلف أنواع الطاقات المتجددة بهدف بلوغ نسبة 52 في المائة من المزيج الكهربائي بحلول 2030، مما يمكن من تقليص التبعية الطاقية ومكافحة آثار التغيرات المناخية وتحقيق الأمن الطاقي.
تؤمن مونية بأن الانتقال الطاقي لم يعد ترفا أو خيارا ثانويا في ظل أزمة الطاقة التي لا تفتأ تفرز آثارا سلبية على الأفراد والمجتمعات، بل صار ضرورة ملحة تفرض استثمار جميع التقنيات التي تشتغل بالطاقات المتجددة لإنتاج طاقة نظيفة غير مكلفة وتحقيق الأمن الطاقي، مشددة على ضرورة إرساء أسس صناعة محلية في هذا المجال عبر الاستثمار أكثر في البحث العلمي وإذكاء الوعي الجماعي بالطاقة المتجددة باعتبارها وسيلة لإنتاج الطاقة الكهربائية وحلا مثاليا لأزمة الطاقة محليا وعالميا.
تحكي مونية أن اهتمامها بمجال الطاقات المتجددة انبثق مبكرا؛ اهتمام نما وكبر واحتضنه فضاء البحث والاستكشاف الفسيح بآفاقه وفرصه وجديده. فبعد حصولها على شهادة البكالوريا، التحقت بالمدرسة العليا الوطنية للفنون والمهن بالعاصمة الرباط، حيث درست سنتين في تخصص الهندسة الحرارية والطاقة، لتلتحق بعدها بكلية العلوم بالقنيطرة حيث نالت الإجازة المهنية والماستر المتخصص في الطاقات المتجددة. خاضت غمار البحث في الطاقة الريحية تحديدا « رغم أنه مجال مستجد لكنه واعد وينطوي على آفاق واسعة، ولم ي ستكشف بما فيه الكفاية بخلاف الطاقة الشمسية »، لتتوج هذا المسار العلمي بنيل شهادة الدكتوراه.
هذا المسار العلمي وما تمخض عنه من ابتكار أثمر حصول مونية عام 2021 على جائزة عالمية مرموقة « المواهب الخضراء » (Green Talents) التي تمنحها وزارة التعليم والبحث العلمي الألمانية منذ عام 2009. كانت مونية، الحاصلة على الدكتوراه في الفيزياء في مختبر النظم الإلكترونية ومعالجة المعلومات والميكانيكا والطاقة، الفائزة الوحيدة من شمال إفريقيا والعالم العربي من بين 25 فائزا نظير مزاوجتها بين الجدارة الأكاديمية وانخراطها الاجتماعي في مجال التعليم من أجل التنمية المستدامة وحقوق الإنسان. « تتويج يمنحني حافزا معنويا وشحنة إضافية لمزيد من العطاء »، تقول مونية.
تقارب الباحثة، وهي نتاج خالص للمدرسة العمومية، موضوع البحث العلمي بالمغرب من زاويتين: طاقات بشرية مغربية تتمتع بمهارات عالية وبروح الخ لق والإبداع والابتكار تضاهي، في رأيها، مهارات باحثين في دول متقدمة، ويتعين دعمها ومنحها فرص تفتيق كفاءتها والإسهام في جهود التنمية، ثم من زاوية ظروف البحث العلمي، معتبرة أن الميزانية المخصصة لهذا الجانب تبقى ضعيفة، وهو ما يؤثر، في رأيها، على الإنتاج العلمي، خاصة في الش عب العلمية التي تحتاج معدات ودعما ماديا للمشاركة في مؤتمرات دولية بغاية صقل المهارات والنهل من تجارب أخرى.
وعن فكرة الهجرة، تبقي مونية الباب مواربا. فهي « منفتحة » على أي فرصة من شأنها أن تطور المشروع وتصقل مهاراتها أكثر. تستحضر في هذا الصدد أنها بعد التتويج بجائزة « المواهب الخضراء » قضت مدة ثلاثة أشهر في مختبر علمي خاص باقتصاديات الطاقة في ألمانيا، واشتغلت بمعية أستاذ متخصص في الطاقة واقتصاديات الطاقة على استخدام تصميم توربينات الرياح الجديد في إنتاج الهيدروجين الأخضر للاستعمال الفردي في المنازل.
هذا التعاون، تقول مونية، أثمر نتائج مهمة ستنشر في مجلة علمية محكمة. كما أن هاته « الهجرة المؤقتة » –كما تسميها– مكنتها من الاحتكاك بتجارب باحثين من دول متعددة في مختلف أصناف الطاقة.
مونية وكفاءات مغربية أخرى.. قصص نجاح تثبت أن مقومات التفوق كامنة في كل ذات تؤمن بقدراتها ولا تستسلم للعراقيل، وأن قوة العزائم والهمم تذلل الصعاب وتمهد سبيل النجاح، وأن معين النبوغ المغربي لا ينضب، بل يواصل التجدد في سلسلة من العطاء محكمة الحلقات.