تحت عنوان “الزمن المنفلت”، يقدّم الفنان التشكيلي المنصوري الإدريسي محمد معرضًا فنيًا جديدًا تحتضنه القاعة الوطنية باب الرواح بالرباط يوم 21 أكتوبر الجاري، ابتداءً من الساعة السادسة مساءً.
يأتي هذا المعرض كتأمل بصري في فكرة الزمن المنفلت من القيود، حيث تتجسّد اللحظات الهاربة والذكريات المتحوّلة في أعمال تشكيلية تنبض باللون والحركة والتجريب. عبر هذا المشروع الفني، يفتح الفنان المنصوري الإدريسي محمد مساحة للتفكير في علاقة الإنسان بالزمن والوجود، من خلال مقاربات جمالية تجمع بين الحس التأملي والابتكار التشكيلي.
“الزمن المنفلت” ليس مجرد معرض، بل تجربة فنية تدعو الجمهور إلى الغوص في عمق اللحظة، واستشعار الجمال الكامن في انسياب الوقت وتحوّلاته.
يشكّل معرض “الزمن المنفلت” لحظة فنيّة وتأمّلية في آن، تتقاطع فيها التجربة الجمالية مع الأسئلة الكبرى التي يطرحها الزمن المعاصر، لا بوصفه مجرّد سياق لمرور الأحداث، بل كقيمة متحوّلة، عصيّة على القبض، تفرض ذاتها كموضوع إشكالي في صلب الممارسة التشكيلية.
ليس الفنان التشكيلي، كما يُخيّل أحيانًا، كائناً خارج الزمن أو فوقه؛ بل هو ابن لحظته، متجذّر في واقعه، وإن اتخذ من الجمال أداة للمقاومة، ومن الصورة وسيلة للتفكّر في ما يفلت من المعنى. إنّه كائن على الحافة: بين ما كان وما سيكون، بين الثابت والمتحوّل، بين الرغبة في القبض على جوهر الأشياء والانجراف في تيار متسارع من التحوّلات.
لقد جاء هذا المعرض أيضًا ثمرة اطّلاع واسع على عدد من الكتابات التي تناولت مفاهيم الزمن والجمال عبر العصور، بدءًا من تنظيرات الفلاسفة والعلماء العرب القدامى، أمثال الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن الهيثم، الذين ربطوا الجمال بالنظام والانسجام والضوء والتناسق العقلي، مرورًا بابن خلدون الذي نظر إلى الزمن من زاوية عمرانية وتاريخية، وصولاً إلى المفكرين المعاصرين، الذين أعادوا مساءلة هذه المفاهيم في ضوء تحوّلات الحداثة وما بعدها.
ومن بين هؤلاء، يبرز المفكر المغربي نور الدين أفاية، الذي اشتغل بعمق على قضايا الصورة، والهوية، وتحولات الحس الجمالي في ظل اختلال المرجعيات الثقافية. لقد نبّه أفاية إلى خطورة انزلاق الجمال إلى مجرّد استهلاك بصري مفرغ من المعنى، في زمن تطغى فيه السرعة وتغيب فيه القدرة على التأمل. كما لا يمكن تجاهل إسهامات محمد الشيكر، الذي قدّم قراءات فلسفية دقيقة لمفاهيم الزمن والحداثة، مبرزًا كيف أن الفن، في علاقته بالفكر، ليس مجرد تمثيل، بل تعبير عن توتّر وجودي، وموقع للمقاومة الرمزية في عالم يزداد ابتعادًا عن العمق.
في زمنٍ تُعيد فيه التكنولوجيا تشكيل الإدراك، وتُقلقل فيه وسائل التواصل حدود الحقيقة والخيال، يصبح من الصعب أكثر فأكثر القبض على الجمال بوصفه قيمة مطلقة أو تجربة صفائية. فالجمال، في هذا السياق، ليس مفهوماً جاهزًا، بل مسعى دائم ومتوتر لإعادة تشكيل العالم عبر الحسّ والرمز والتجربة البصرية. وهو مسعى يزداد تعقيدًا حين يتقاطع مع اختلالات الواقع: تفاوت اقتصادي صارخ، أزمات وجودية، قلق معرفي، وفقدان للثوابت.
هنا، لا يعود الجمال هدفًا جماليًا خالصًا، بل يتحوّل إلى استراتيجية مقاومة: مقاومة التفاهة، والزيف، والتكرار، وتسليع الإحساس. فالفن، بهذا المعنى، هو محاولة يائسة وربما بطولية للإمساك بلحظة صدق، أو بوميض معنى، وسط زمن يتفلّت بسرعة البرق من بين الأصابع. ومن هذا التفلّت بالتحديد يستمدّ المعرض عنوانه ومضمونه: “الزمن المنفلت” ليس مجرد توصيف لحالة، بل تشخيص لتحدٍّ وجودي يواجه الفنان والمفكّر والمجتمع على حدّ سواء.
تعمل الأعمال المعروضة في هذا المعرض على مساءلة الزمن لا فقط كخلفية، بل كعنصر حيّ يتداخل مع المادة، والتكوين، والضوء، واللون. فهي تحاول القبض على الجمال لا بوصفه نهاية، بل كفعل مستمرّ، كتوتّر، كمقاومة للابتذال، كبحث مفتوح لا عن الإجابة، بل عن الصيغة التي تسمح بطرح الأسئلة الجمالية بطريقة صادقة ومُجذِّرة في واقع اليوم.
بهذا المعنى، يصبح المعرض ساحة يتواجه فيها الفنان مع ذاته وزمنه، ساعيًا إلى بلورة رؤية لا تحبس الجمال في قوالب الماضي، ولا تستسلم لتشظيات الحاضر، بل تقترح فضاءً تأمّليًا يحاول ـ برهافة عالية ـ إعادة وصل ما انقطع، والتقاط ما يفلت، ورسم ما لا يُقال.