الماء ليس مجرّد مورد طبيعي، أو شربة تروي ظمأ الأفراد، وتسقي حقولا لتؤتي أكلها بعد حين . إنه مصدر الحياة، ورمز السيادة، ومفتاح الاستقرار الذي بسبب وَفْرتِه أو نذرته تغيرت شؤون الحضارات ونشبت حروب ، و سُنَّتْ معاهدات سلم وأمان .
ويشهد العالم اليوم تحولات مناخية واقتصادية غير مسبوقة، جعلت من الماء أحد أهم الموارد الاستراتيجية المهددة بالندرة. وفي قلب هذه المعادلة الصعبة، تبرز منطقة شمال إفريقيا كإحدى أكثر المناطق عرضة لظاهرة الإجهاد المائي، حيث يلتقي الجفاف الطبيعي مع الضغط السكاني والاقتصادي المتزايد، لتتشكل أزمة بيئية عابرة للحدود، تتطلب حلولًا عاجلة وشاملة.
فدول شمال إفريقيا اليوم تقترب من الخط الأحمر، حيث تحول الماء من نعمة وفيرة إلى سلعة نادرة قد تشعل الأزمات وتغير خرائط النفوذ. مما يجعلنا أمام ظاهرة “الإجهاد المائي” التي لم تعد نظرية بيئية في تقارير الأمم المتحدة، بل واقعا يوميا يلمسه الفلاح في حقله، والطفل في قريته، والمدينة في صنابيرها.

شمال إفريقيا… خزان يجفّ بسرعة
تشير تقارير البنك الدولي ومنظمة الأغذية والزراعة (FAO) إلى أن معظم دول شمال إفريقيا تعيش اليوم تحت خط الندرة الحادة للمياه، إذ لا يتجاوز نصيب الفرد 500 إلى 1000 متر مكعب سنويًا، مقارنة بالمعدل العالمي البالغ حوالي 7000 متر مكعب.
في الجزائر وتونس، على سبيل المثال، تراجعت الموارد المائية للفرد الواحد إلى أقل من 450 مترًا مكعبًا سنويًا، بينما تعيش ليبيا على أكثر من 90% من المياه الجوفية غير المتجددة، ما يهدد استدامة مخزونها في غضون عقود.
هذه الأرقام تعكس واقعًا خطيرًا، مفاده أن المنطقة المغاربية تعتمد بشكل شبه كامل على الأمطار الموسمية التي أصبحت أكثر ندرة وتذبذبًا، إضافة إلى الضغط الناتج عن التوسع الفلاحي والصناعي و الحضاري في شقه العمراني .
المغرب… بين إرث الوفرة وضغط الندرة
المغرب، الذي كان في الماضي “مملكة السدود” وواجهة إفريقيا في الأمن المائي، ما انفك يعيش اليوم على إيقاع أرقام مثيرة للقلق، إذ تشير التقارير إلى أن ما يناهز 600 متر مكعب هي الحصة المسجلة في مبيان ما يستفيد من الفرد سنويًا، مقابل 2500 متر مكعب قبل ستين عامًا خلت . فمناطق مثل سوس والحوز والجنوب الشرقي تعيش نزيفًا صامتًا للفرشات المائية، بمعدل انخفاض يصل إلى ثلاثة أمتار في السنة.
والأخطر من ذلك أن الاستهلاك المائي لا يرحم: الزراعة تلتهم أكثر من 80% من الموارد، كثير منها يذهب لري محاصيل تصديرية، فيما القرى المجاورة تعاني العطش في عز الصيف.
المخطط الوطني للماء… خطة إنقاذ أم سباق مع السراب؟
المغرب أطلق المخطط الوطني للماء 2020-2050 باستثمارات ضخمة، لبناء سدود، وتحلية مياه البحر، وإعادة استعمال المياه العادمة. محطة أكادير وحدها تنتج 400 ألف متر مكعب يوميًا، والدار البيضاء على الطريق. لكن السؤال الجوهري: هل تكفي البنية التحتية وحدها إذا ظل الاستهلاك بلا ضوابط حقيقية، والوعي العام في حالة سبات؟
أزمة إدارة قبل أن تكون أزمة مناخ
الإجهاد المائي ليس فقط نتيجة الجفاف، بل نتيجة سياسات مائية لم تواكب التغيرات المناخية بالسرعة المطلوبة. استمرار الزراعات المفرطة في استهلاك الماء، غياب تسعيرة تعكس القيمة الحقيقية للمورد، ضعف المراقبة، وانعدام الصرامة في مواجهة الاستنزاف غير المشروع، كلها عوامل تُسهم في تعميق الأزمة.
دعوة إلى وعي مائي مستدام
إذا استمر الوضع كما هو، فالأجيال القادمة لن تتحدث عن ندرة الماء، بل عن فقدانه. المغرب يملك فرصة أن يظل نموذجًا إقليميًا، لكن ذلك مشروط الا اذا قام :
– بإصلاح جذري لسياسات الاستهلاك، استثمار حقيقي في التكنولوجيا المائية.
الماء اليوم ليس هدية من الطبيعة، بل معركة وجود. من لا يعي ذلك، سيستيقظ يومًا ليجد أن السدود فارغة، والحقول قاحلة، والصراعات على الماء أشد من أي نزاع سياسي. المغرب يقف الآن عند مفترق طرق: إما أن يقود المنطقة نحو أمن مائي مستدام، أو يجرّ نفسه وبقية شمال إفريقيا إلى “عطش القرن”.
إعداد : فاظمة الفرناجي